إنجاز: محمد لمراني علوي
باحث في التاريخ
تقديم
لقد عرف التاريخ الإسلامي العديد من القضايا والأحداث التي رسمت معالم هذه الأمة، والتي كانت تسير وفق إرادة إلهية ، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينظم هذا المجتمع الجديد وفق توجيه رباني ، الشئ الذي ساهم في توفير أسباب النصر والتمكين لهذا الدين ، لكن ما يؤسف له هو أن هذه الأحداث والقضايا تمر علينا ، والكثير منا لا يعرف حتى تواريخها ولا ماهياتها ، ولا تأثيرها على المجتمع، بخلاف اليهود الذين يركزون بشكل كبير جدا على أعيادهم ومناسباتهم ويصرون على الاحتفال بها ولو في مناطق بعيدة عن سكناهم ومناطق تواجدهم ، بل يؤكدون على ضرورة ذلك ولو على حساب الآخرين ، فكثيرا ما نشاهد الحصار المتكرر، والإغلاق المطبق على الفلسطينيين بدعوى الاحتفال بأعيادهم ، هكذا يحاصر شعب بأكمله في سبيل احتفالهم هم ، هذا عكس الأمة المسلمة التي للأسف لولا شهر رمضان المبارك ما تذكرنا تاريخنا الإسلامي ببطولاته الماجدة ـ بطولات رسول الله وصحابته ـ وهو شهر الانتصارات وشهر بناء الأمة الحضاري إن جاز القول بذلك ، وهذا الشهر عرف حدثا من أهم الأحداث التي ساهمت بدور كبير في بناء أمة الإسلام، وإحقاق الحق عن الباطل ، بعد الاضطهاد والتضييق والتعذيب الذي لقيه المسلمين الأوائل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ، هذا الحدث يتمثل في غزوة بدر الكبرى ، وهي التي جرت أطوارها يوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك ، فحق لنا أن نحتفل بها ، ونعرف بها ، ونحاول معرفة حيثياتها وفق رؤية جديدة ، وقراءة جديدة لأحداثها وقضاياها ، لذا لن يتم الحديث عن هذه الغزوة حديثا كرونولوجيا ، لكون جل كتب السيرة والتاريخ قد أشارت إلى ذلك بشكل مستفيض جدا ( ).
وأهمية غزوة بدر الكبرى تكمن في كونها أول مواجهة مسلحة بين الكفار والمسلمين في إطار مواجهة جيش لجيش ، بعد تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بناء النواة الأولى للمجتمع الجديد في المدينة ، فكانت المعركة الامتحان الأول الذي يخوضه المسلمون في مواجهة الكفار ، رغم أن الخروج إلى بدر لم يكن في الأصل لمواجهة قريش ، ولكنه كان من أجل التعرض للقافلة التجارية القادمة من الشام والتي يترأسها أبو سفيان ( ) ، حيث كانت تضم أموال وممتلكات المهاجرين، الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن وصول الخبر إلى قائد القافلة ، أبو سفيان جعله يغير الطريق على محادة الساحل في اتجاه مكة ، حتى لا تمر بمحادة معسكر المسلمين ( ) لتنجو في الأخير من سيطرتهم عليها ، لكن خروج قريش إلى بدر لإنقاذ القافلة والقضاء على قوة المسلمين الناشئة حتى لا تهدد مستقبلا قوافلها التجارية ( ) جعلهم يصرون على مواجهة المسلمين متوقعين القضاء عليهم في جولة واحدة ،رغم معارضة ذلك من طرف بعض كبراء قريش بدعوى نجاة القافلة، لكن حكمة الله تعالى وإرادته كانت أقوى مما تخطط له قريش ، فرغم اختلاف الجيشين من حيث العدد والعتاد ، وتفوق جيش قريش على جيش المسلمين في ذلك ظاهريا ، إلا أن النصر الحقيقي كان مع الفئة القليلة عددا وعتادا ، والمؤمنة بعون ربها لها ، هذا النصر الذي غير معالم هذا المجتمع، بتمكين هذا الدين الجديد الذي أحدث ثورة في معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، لكن يبقى السؤال المطروح ، ماهي الأسباب الحقيقية وراء انتصار المسلمين على المشركين في غزوة بدر؟
Iأسباب النصر وعوامله
لقد كان نصر الله للمؤمنين في بدر بالقوة المعنوية وحدها ، لأن التدبير تدبير الله تعالى والنصر من فضله ، أما الكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر ، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة ( )، لقد وضع الله للمؤمنين المواد في دستور هذه القوة التي لايستغني عنها جيش يحرص على الفوز ، وأرشدهم إلى طريق النصر وقانونه ، قال الله تعالى >> ياأيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين <<( )، وبذلك يمكن حصر عوامل النصر الحقيقية فيما يلي ( ):
1ـ الثبات عند لقاء العدو : والثبات محله القلب ، ولا يتأتى إلا بقوة العقيدة ورساخة الإيمان ، وهي لازمة للمؤمنين في ميدان القتال وفي كل ميدان .
2ـ الإكثار من ذكر الله : والإكثار من ذكر الله في ميدان القتال ، هو المادة الثانية لأنه الاتصال بالقوة الكبرى ، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى ذي الجبروت ، والثقة بالله الذي ينصر الحق ، واستحضار حقيقة المعركة لإعلاء كلمة الله ،لا للسيطرة، ولا للجاه، ولا للمغانم، ولا للشهوة، أو النزوة ، وإنما كانت لله وفي سبيل الله.
3ـ طاعة الله ورسوله:وطاعة الله ورسوله هي المادة الثالثة في هذا القانون ،وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائد العام ، فليدخل المؤمنون المعركة وقد أدوا فرائضهم ، وقدموا واجبهم، وأسلموا أمرهم لله ورسوله ثقة منهم ، بحكمة تدبيره وصدق رسوله ، بذلك يتم النظام الذي لابد منه لكل جيش ،بتوحيد القوى، وسرعة التحرك، ودقة التنفيذ للخطط.
4ـ اتقاء النزاع : وهي المادة الرابعة في قانون النصر، لأنه في زمن الحرب تتنازع الهيئات، أو الأحزاب، أو الأفراد ، فيتم النهي عن التنازع بقوله سبحانه >> ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم <<( ) ، ومن ثم وجب أن ينهوا عنه ولو اقتضى الأمر وقف العمل بمبدأ الشورى.
5ـ الصبر عند لقاء العدو : الصبر عند لقاء العدو هو خامس المواد في قانون النصر، إذ للحرب ضروراتها التي لا تسيغها النفوس ، كإعلان الحكم العسكري الذي يقيد بعض الحريات، أو المقاطعة الاقتصادية التي تسبب شيئا من الضيق ونقص الأسلحة الذي يوقع في الحرج ، وتفوق العدو الذي قد يدفع على القلق ، وهي ضرورات لابد لمن يريد النصر أن يصبر عليها راضيا بها.
6ـ اتقاء البطر والرياء :قد يحسن المؤمنون الاستعداد للحرب ، فيشعرون بأنهم أهل لأن ينصروا بقوتهم ، فيحملهم على هذا الاستعلاء والفخر ، فيخرجون متبطرين طاغين ، يتعاجبون بقوتهم ، ويستخدمون نعمة القوة التي أعطاها الله في غير ما ارادها الله ، حرصا على ثناء الناس وإعجابهم فيفوتهم في هذه الحال النصر لأن قانونه يهيب بهم في قوة >> ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس <<( ).
7ـ التوكل على الله : وهو روح المواد الستة وقوامها ، إذ لابد منه لكونه باعثا على كل منها ، ونتيجة لكل منها ،على أنه يعني الاستعداد التام قبل المعركة والاطمئنان التام للنصر من بعد .
إلى جانب الأسباب السابقة الذكر يمكن إضافة : ( )
1ـ شوق المسلمين إلى الشهادة في سبيل الله ، وطلبهم الجنة ببذل الطريف والتليد في مرضاة الله الباري عز وجل ، مما يورث روحا معنوية لاتبارى ، ولا يخف على احد أثر الروح المعنوية في تحقيق النصر .
2ـ شدة انضباط المسلمين، وتنفيذهم تعليمات قائدهم صلى الله عليه وسلم بكل رغبة وإخلاص.
3ـ صدق القيادة وحكمتها ،وكونها قيادة فعلية من خلال مشاركة الجنود في تحمل مختلف ألوان الأعباء ، فلقد شاركت هذه القيادة النبوية جنودها في السير على الأعداء وفي عمليات الاستطلاع، وفي خوض المعركة، ولقاء العدو لقاءا مباشرا .
4ـ شدة اجتذاب القيادة بكفاياتها العظيمة لقلوب الجنود، حتى قال قائلهم للرسول صلى الله عليه وسلم " يا رسول الله أمضي لما أراك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى >> فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون <<( )، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
5ـ لقد طلع النبي صلى الله عليه وسلم على الأعداء بأسلوب جديد في القتال، وهو أسلوب الصف ، فكان له أثره في تحقيق النصر، والتاريخ الحربي يشهد بأن تطبيق القادة العظام أساليب جديدة غير معروفة في القتال كان له أثره في الانتصارات التي أحرزوها .
وهكذا نرى أن أسباب الانتصار العظيم الذي حققه المسلمون في بدر كانت تكمن في إتباع سنن الله التي علمنا إياها القرآن الكريم ، وسننه تقتضي بأن النصر هو لمن اتقاه، وتوكل عليه، وتفوق في اتخاذ الأسباب الموضوعية الممكنة ، والله تعالى كما ورد في السنة يحب من عمل عملا أن يتقنه.
IIـ أثار معركة بدر الكبرى على قريش ( ) .
1ـ من الناحية النفسية:
أ ـ كانت معركة بدر ضربة موجعة مفاجئة لقريش، هزتها من الناحية النفسية هزا عنيفا ،وأشعرتها أن المسلمين أصبحوا قوة غالبة، وأنهم مؤيدون بقوة أخرى لا يستطعون حيالها شيئا ، ولعل اعترافهم بتأييد المسلمين بقوة غير عادية ـ وهي الملائكة ـ يدل على مبلغ اهتزاز نفسية قريش نتيجة معركة بدر العظيمة .
ب ـ لقد أذهلت نتائج بدر رجالات قريش، حتى الذين لم يحضروا المعركة وأذلتهم، وفي مقابل ذلك جعل هذا الانتصار معنويات المسلمين المستضعفين في مكة ترتفع .
ج ـ إن نتائج غزوة بدر أحزنت قريشا وعذبتهم عذابا معنويا أليما ، وغزوة بدر قد هزت قريشا هزة نفسية عنيفة وأذهلتها أيما ذهول ، وفي مقابل ذلك جعلت المسلمين يحيون في أفاق نفوسهم بالعزة وارتفاع المعنويات، وزيادة الثقة بالنصر الذي هو آت .
2ـ من الناحية الاقتصادية:
إن نصر بدر جعل المسلمين يتحكمون في طرق التجارة من جهة، بالإضافة إلى الاتفاقيات التي عقدها الرسول مع القبائل العربية المتعلقة بمنع مرور قوافل قريش، مما جعلها تعيش في حصار اقتصادي شديد، سيكون له أثر في إضعافها كقوة كبيرة تقف بعناد وإصرار على رأس قوى الشرك العربية المناوئة للدعوة .
3ـ من الناحية القيادية :
لقد أودت معركة بدر بعدد كبير من كبار قادة قريش، وأشرافها ولعل هذا ما أحدث فراغا قياديا لدى قريش ، خصوصا في الوقت الذي لم يكن فيه إعداد الخلف ، نظرا لكونهم كانوا يحبون القيادة والمناصب العليا في قريش.
4ـ من الناحية العسكرية :
إن هزيمة قريش في بدر أطاحت من كبريائها العسكري ، وأضعفت من ثقتها بنفسها إزاء المسلمين، خصوصا وأن الهزيمة قد نكبتها بعدد كبير من ملئها وقادتها وسادتها ، وكلهم ذوي مكانة في حياتها العسكرية . وما زالت حالتها العسكرية بعد هذه النكبة بين مد وجزر ضمن اتجاه عام، أخذ في الانحدار حتى بلغ حضيضه يوم تم جلاء المشركون عن الخندق .
IIIـ أثار معركة بدر على القبائل العربية ( )
كانت القبائل العربية قبل بدر لاتعير المسلمين الاهتمام الذي يستحقونه ، لقد كانت تنظر إليهم بوجه عام كأناس مستضعفين مهاجرين من بلادهم ، ويلتمسون لهم ملجأ في يثرب . أما بعد بدر وبعد أن أوقعوا بقريش فقد أدركت أنهم صاروا قوة خطيرة، يجب ألا يتغاض عنها بل يجب أن يقضى عليها ، وبانتصار المسلمين في بدر أضحت هذه القبائل مهددة بأخطار جسيمة اقتصادية ودينية وسياسية ، ومن ثم جعلت تتحفز للقضاء على الدعوة وازدهارها، مما جر على المسلمين حرجا غير قليل ، غير أنهم ارتفعوا إلى مستوى ظروف المواجهة ، وقاموا بعدد من الغزوات التلاحقية ، يفاجئون بها القبائل قبل أن تتحرك نحوهم حتى ردوها إلى الصواب كارهة أو طائعة .ومن بين هذه الغزوات نذكر:
ـ غزوة بني سليم
ـ غزوة بحران ....
الخاتمة
وبعد فهذه غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون ، وزلزل المشركون ، وأنجز الله وعده وأعز جنده، وأسعد من حضرها من المسلمين فهو عند الله من الأبرار ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنة " ( )، وبهذه الغزوة وبهذا الانتصار استقر أمر المسلمين في بلاد العرب جميعا ، وكانت هذه الغزوة مقدمة وبداية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف ، فقد سماها الله سبحانه فرقانا حيث قال>> وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان<< ( )، لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، والنور والظلام ،ورغم أن بدر تعد أول غزوة من غزوات جيش الإسلام، ورغم أنها المرة الأولى التي يقف الرسول الكريم موقف المحارب، فإننا نستطيع أن نستخلص منها دروسا لها قيمتها، ومبادئ خطيرة لها شأنها في سير المعارك ، وهذه الدروس لم تتغير ولم تتبدل رغم اختلاف العصر الذي نعيش فيه ، والعصر الذي تمت فيه غزوة بـدر، ومـن أهمها ( ):
1ـ أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية ، ووضعها في المقام الأول ، لأن في القضاء عليها قضاء على القوة العسكرية .
2ـ الشورى ومالها من أهمية كبرى في الميدان، ووقت الحرب ،فالقائد الحكيم هو الذي يستشير خبراءه ليعرف منهم الخطة السليمة الصحيحة .
3ـ أهمية القوى المعنوية للمحاربين، والقوة المعنوية هي العامل الأول الذي دفع بالمسلمين إلى النصر رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم .
4ـ الاهتمام بالاستكشاف والاستطلاع قبل وإبان المعركة ، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه لذلك ، أو كان يختار من يثق بهم .
5ـ تكتيك الحرب الذي يبدوا واضحا في السرية التامة في التحركات ، وخاصة خلال العمليات ،فاحتلال المسلمين لمواقع المياه تنفيذا لرأي الحباب بن المنذر تم في منتصف الليل حتى لايشعر بهم العدو .
6ـ ضرورة تغلغل العقيدة في نفوس المحاربين ،فإن العقيدة المتغلغلة في نفوس المسلمين،بلغت منهم منزلة تسموا على صلات الرحم والقرابة ، فكان الرجل منهم يقتل أباه أو أخاه ،أو عمه ، أو قريبه من المشركين ، ولا تأخذه فيه شفقة ولا رحمة .
7ـ معاملة الأسرى معاملة كريمة فان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفداء وفوق هذا أطلق سراح الأسير الفقير الذي لامال له ولاشيء عنده يفتدى به نفسه .
فهذه غزوة بدر وهي صفحة بيضاء مشرقة ، من صفحات تاريخنا دونها بإخلاصهم وإيمانهم آباؤنا الأولون ، وليس لنا من سبيل إلى ما وصلوا إليه من عز ومجد ، إلا أن نستن سنتهم ، وأن نسير على طريقتهم وأن ننسج على منوالهم ، وعند ئذ يكون لنا بوعد الله ماكان لهم من عزة ومجد وكرامة ، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، والحمد لله رب العالمين .
0 comments:
Post a Comment