Top Ad 728x90

Tuesday, 20 June 2017

,

ليلة القدر ليلة السلام يا أمة الإسلام !( نظرات في سورة القدر) مع الدكتور محمد محترم


تقديم
ليلة القدر هي أعظم ليلة ترد في أعظم شهر خلال السنة وهو شهر رمضان الأبرك. ويمكن تسميتها بحق ليلة السلام لأن الله سبحانه وتعالى وصفها بذلك في السورة التي خصصها للحديث عنها في كتابه الحكيم حيث قال: " سلام هي حتى مطلع الفجر". فما أحوج الأمة الإسلامية اليوم أكثر مما سبق الى أن تستوعب الدرس وتتفاعل ايجابيا مع مثل هذه المعاني في ديننا الحنيف ، في هذا الوقت العصيب الذي تمر به والتي هي فيه أشد ما تكون حاجة الى أن يعمها السلام.
هذه السورة المباركة التي تسمى سورة القدر، أو تسمى سورة ليلة القدر كما ورد عند ابن عطية وأبي بكر الجصاص، هي سورة مكية عند أغلب المفسرين. وهناك من ذكر أنها مدنية   وقد روى ذلك عن ابن عباس والضحاك. وقال صاحب التفسير الحديث محمد عزة دروزة:" وأسلوبها ووضعها في المصحف بعد سورة العلق قد يؤيدان مكيتها وتبكيرها في النزول"  
ليس في أي تفسير من التفاسير المشهورة التي بين أيدينا رواية تشير إلى فضل خاص لهذه السورة كما ذكر عن غيرها، لكنها تكتسب أهميتها وقيمتها وفضلها من شرف وفضل موضوعها وما تتضمنه من الحديث عن هذه الليلة المباركة التي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ما يثبت عظم شأنها في الدين وعند الله سبحانه وتعالى فخصصت لها هذه السورة الكاملة في كتاب الله تعالى وسميت باسمها. بل إن تسميتها بليلة القدر في حد ذاته يفيد عظم قدرها وفضلها عند الله تعالى. جاء في التحرير والتنوير:" والقدر: الذي عرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة. فتلك ليلة جعل الله لها شرفا فجعلها مظهرا لما سبق به علمه. فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم"  
وقد تواترت أيضا الاحاديث النبوية في فضلها إضافة إلى ما جاء عنها في كتاب الله تعالى. ولا غرابة في هذا التنويه القرآني والنبوي القوي بهذه الليلة المباركة، فهي أحق به وأجدر، لكون أعظم حدث في تاريخ الإسلام بل والإنسانية جمعاء وقع فيها، وهو إنزال رب العزة لأعظم كتاب في الوجود على أكرم رسول من الرسل لخير أمة أخرجت للناس. وإلى هذا الحدث العظيم يرجع كل ما وقع من أحداث عظيمة في تاريخ هذه الأمة وكل الخيرات والبركات التي جاءت بعده. ولذلك قيل في سبب تسميتها بليلة القدر إنه  نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على رسول ذي قدر ولأمة ذات قدر، وأيضا أن من فعل الطاعات فيها و أحياها يصبح ذا شرف وقدر. 
بيان عام للسورة 
أخبر الله تعالى في افتتاح هذه السورة  الكريمة " إنا أنزلناه في ليلة القدر" بأنه هو سبحانه الذي أنزل هذا القرآن المعجز في ليلة القدر وهي الليلة المباركة المذكورة أيضا في قوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"   . جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله :" قال غير واحد : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم"   وعبارة "وما أدراك  ما ليلة القدر" تفيد تعظيم هذه الليلة وتفخيم أمرها . قال الخازن :وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق لخبرها كأنه قال : أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها !؟" . 
بعد هذا الافتتاح في السورة والذي يبرز تشريف هذه الليلة وتخصيصها بإنزال كتابه الكريم واجتبائها على سائر الليالي بجعلها الوعاء الزمني الأشرف والأنسب لهذا الحدث العظيم يأتي ذكر بعض الأوجه  الاخرى لبيان فضلها والتي لها أهميتها ودلالاتها  الكبرى على هذا المعنى : 
ـ أولا: "ليلة القدر خير من ألف شهر" أي أن لها من الشرف والفضل ما يربو على ألف شهر، فالعبادة والطاعات وأعمال الخير التي تكون فيها أفضل مما يكون في ألف شهر مما ليس فيه ليلة القدر. قال مجاهد: "عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر"   . 
ـ ثانيا: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر" أي يكثر تنزل الملائكة وعلى رأسها عظيمهم وهو جبريل عليه السلام فتنتشر بين السماء والأرض في مهرجان كوني عجيب، تتنزل في هذه الليلة بالبركة والرحمة كما تتنزل عند تلاوة القرآن، وتحف أهل حلق الذكر، وتضع أجنحتها لطلاب العلم النافع رضا بما يفعلون. وفي قوله تعالى :"من كل امر" يعني من أجل كل أمر قدره الله وقضاه لتلك السنة إلى السنة القابلة. أقدار الأفراد و الأسر والدول والشعوب والأمم. قال قتادة وغيره: "تقضى فيها الأمور وتقدر الآجال والأرزاق كما قال تعالى:" فيها يفرق كل أمر حكيم" . 
ـ ثالثا: " سلام هي حتى مطلع الفجر" فهي خير كلها وأمن وسلام  من أول يومها إلى طلوع الفجر. تسلم فيها الملائكة في نزولها وعروجها على عباد الله المؤمنين الصائمين القائمين. جاء في التحرير و التنوير :" والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة " قال تعالى:" يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم"  ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسر السلام بالخير، والمعنيان حاصلان في هذه الآية ، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى فيشمل السلام الغفران وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى :" والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"  نرجو الله أن نكون منهم وألا يحرمنا إدراك فضل هذه الليلة المباركة - آمين. 
ومضات من الهدى المنهاجي في السورة 
ـ أولا: ما مدى تعظيمنا يا أخي لكتاب الله ولهذه الليلة المباركة التي نزل فيها وقد عظمها سبحانه وشرفها في كتابه وسنة نبيه؟ أنا وأنت والأمة جمعاء؟ ما مدى استشعارنا لهذا الاجتباء الرباني والتخصيص الإلهي بإنزال أعظم كتبه في هذه الليلة وتشريفها وتفضيلها على سائر الليالي والأيام والأزمنة. أليس في تخليد هذا الحدث العظيم بهذه السورة المباركة في كتابه العزيز تعليما لأبناء هذه الأمة أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم وهو - كما قال الطاهر بن عاشور – :مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى: "وذكرهم بأيام" اللهفينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن» . 
ـ ثانيا: اقترن شهر رمضان المعظم بذكر انزال القرآن الكريم فيه سواء في آية البقرة التي تنص على نزول القرآن في شهر رمضان في قوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"  أو آية سورة القدر التي تنص على إنزاله في ليلة القدر« إنا أنزلناه في ليلة القدر» مما يفيد أن رمضان هو شهر القرآن بامتياز. ألا ينبغي أن يكون الإقبال عليه في هذا الشهر إقبالا خاصا، تلاوة و تدبرا وحفظا  ومدارسة... !؟ فما هو حظك يا أخي من هذا كله خلال هذا الشهر المبارك !؟ وأين أنت ممن قيل فيهم «اللذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يومنون به»  !؟ فإن كان لك حظ وافر من هذا فهنيئا لك ! فقد وفقت وعرفت فالزم. وإن كان غير ذلك، فهذه ليلة القدر حاول أن تستدرك بإحيائها ما يمكن استدراكه. 
ـ ثالثا: لعل في إشارة هذه السورة الكريمة إلى نزول الملائكة وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل بالرحمات والبركات وإلقاء التحيات والسلام على المؤمنين الصائمين القائمين ما يفيد الحث على إحياء ليلة القدر في كل سنة اقتداء بهؤلاء الملائكة المقربين ورجاء في الفوز بهذه الخيرات التي خص الله بها هذه الليلة المباركة. ورد في الموطأ عن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله (ص) أُريَ أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل, مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر . فهذه مزية وفضل من الله على هذه الأمة ليست لسواها فاغتنمها أيها الأخ الفاضل بالطاعات والعبادة إحياء لهذه الليلة حتى تدرك من الأجر والفضل في ليلة ما قد يكون أدركه غيرك في الأمم السابقة بطول العمر. 
ـ رابعا: حذاري أيها الأخ الفاضل أن تكون من المغبونين في هذه الصفقات التجارية الرابحة مع الله تعالى في هذه الليلة المباركة التي تضاعف فيها أجور الأعمال و قيم الأسهم مضاعفة لا تتاح في ليلة أخرى غيرها، وحذاري أن تنزل الملائكة يتقدمهم جبريل عليه السلام بالخيرات و البركات والتحيات الطيبات فيجدونك في صف المحرومين من أهل اللهو أو النوم أو الغفلة فتكون ممن ورد في حقه:« من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا» . 
ـ خامسا: عن أبي هريرة (ض) عن النبي (ص) قال:« من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه. فها هو رسول الله (ص) النموذج الأعلى والقدوة الحسنة , باختيار  واجتباء رباني «لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا»    قد تقدمك، فاقتف أثره، وامض و لا تلتفت لمن خلفك. فعن عائشة (ض) قالت:« كان رسول الله (ص) يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره ,وفي العشر الأواخر منه, مالا يجتهد في غيرها» رواه مسلم. وعنها أيضا قالت: كان رسول الله (ص) :«إذا دخل العشر الأواخر من رمضان, أحيا الليل, وأيقظ أهله وجد وشد المئزر» متفق عليه. فما عزمك، وما حزمك، وما مدى ائتمامك والإمام أمامك!؟ 
ـ سادسا: وردت نصوص حديثية كثيرة مختلفة في شأن تعيين ليلة القدر. منها ما يفيد أنها في الحادي والعشرون من رمضان، وقيل: تكون ليلة ثلاث وعشرين، وقيل: تكون ليلة خمس وعشرين. وجزم أبي بن كعب في حديث رواه مسلم في صحيحه أنها ليلة سبع وعشرين. وقيل تسع وعشرون، وقيل غير ذلك، و ثبث أيضا في نصوص صحيحة أخرى أمر رسول الله (ص) بتحريها في العشر الأواخر من رمضان, وفي السبع الأواخر وفي الوتر من العشر الأواخر... ولعل الحكمة في ابهامها كما قال الإمام برهان الدين البقاعي:« ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها, وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جمعيها، و قيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذرا من قيامها والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهارا لنفاسته وإعظاما للرغبة فيه وايذانا بالسرور به...» . 
ـ سابعا: يستحب الإكثار من الدعاء في كل وقت وحين وفي شهر رمضان المبارك خاصة, وفي العشر الأواخر منه بشكل أخص, وفي أيام الوتر منها أكثر. عن عائشة (ض) قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال :«قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح. 
فأكثر –أخي- من الدعاء مع الالحاح فيه، لنفسك وأهلك والأمة جمعاء تكن إن شاء الله من الفائزين. 
ـ ثامنا: في قوله تعالى «سلام هي» قال العلامة ابن عاشور: «ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر, والتقدير: سلموا سلاما, فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه  إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: "قالوا سلاما قال سلام" والمعنى: اجعلوها سلاما بينكم ,أي لا نزاع ولا خصام, يشير إليه ما في الحديث الصحيح "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" . فهل يا أخي يسلم كل من حولك من خصوماتك ومنازعاتك وبوائقك، أهلك، أقرباؤك, جيرانك... !؟ هل يشعر كل الخلق وهم عيال الله، اتجاهك بالأمن والسلام و الرحمة و المحبة.... !؟ هل تسلم على من تعرف و على من لا تعرف من الناس اقتداء بالحبيب المصطفى (ص) بكل ما يحمله التسليم من دلالات وقيم !؟ 
إن كل ذي بصيرة يتأمل بعمق في نصوص القرآن الكريم، و السنة النبوية الشريفة ومقاصد الشريعة الكبرى، يدرك أن هذا الدين الحنيف الرباني المصدر و الغاية مبنى في جوهره على فلسفة السلام والأمن وقيم العدل والتسامح  والمودة والمحبة والرحمة، وكذا الإحسان في المعاملة مع القريب والبعيد، الصديق والعدو، الموافق والمخالف. شعار المؤمن في علاقاته قول ربه عز وجل:" ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم "   فأين نحن من هذا أيضا، على مستوى الدول فيما حدث و يحدث مع كل أسى وحسرة في سوريا و اليمن و ليبيا و العراق وغيرها من بلاد المسلمين . أين نحن من قوله تعالى:  "إنما المومنون إخوة"  فيما يجري  اللحظة بين الأشقاء في الخليج بكل خسة وحقد ومكر وخديعة مما لا يقبل شرعا ولا قانونا و لا إنسانيا. 
          وظلم ذوي القربى أشد مضاضة °°° على النفس من وقع الحسام المهند 
قاتل الله كل طائفية و عنصرية و عصبية منتنة بأي عذر وتحت أي شعار. قال (ص) «ليس منا من دعا إلى عصبية, وليس منا من قاتل على عصبية, وليس منا من مات على عصبية» أخرجه أبو داوود في سننه, إنها الجاهلية المقيتة  في أثواب معاصرة, فيا حسرة على العباد! 
خاتمة 
ألا فلنتب الى الله جميعا أيها الأحبة، أفرادا وجماعات، اسرا ومجتمعات، شعوبا وحكومات، حكاما ومحكومين، في ليلة السلام هاته، توبة نصوحا قبل فوات الأوان. ولنصلح ذات بيننا بالصفح والعفو عمن أساء إلينا، والاعتذار ورد المظالم والحقوق الى من أسأنا إليه. لعل الله سبحانه وهو الغفور الرحيم يرحمنا ويقبل توبتنا في شهر التوبة، ويبدل حالنا هذا الذي لا نحسد عليه الى أفضل حال. فننعم  حقيقة بالسلم والسلام والامن والأمان،  في أجواء يسودها التراحم والتسامح والتواد والخير المتبادل، بدل الظلم والعداوة والبغضاء والكراهية، الحالقة للدين والدنيا معا. 
ثم أوصي نفسي أولا وأوصيك أخي/أختي ثانيا بوصية أحد العارفين بالله قائلا:« عليك أيها العازم القاصد لإحياء تلك الليلة وإدراكها أن تشمر ذيلك لإحياء عموم الليالي الآتية عليك في أيام حياتك، إذ هي مستمرة فيها، وبالجملة، لا تغفل عن الله في جميع حالاتك حتى تكون عموم لياليك قدرا  خيرا من الدنيا وما فيها». 
                                                                              محمد محترم

0 comments:

Post a Comment

Top Ad 728x90