بقلم : د.محمد الحفظاوي
من المجالات العلمية التي تغريني بالبحث والتأمل، منهج فهم النصوص الشرعية، ذلك المنهج الذي أبدعه الأصوليون و استعمله الفقهاء قديما ومازال صالحا للاستعمال ولاستمداد المعارف بواسطته، وماأحوج طلاب العلم اليوم للوقوف على مناهج إنتاج المعرفة عامة والمعرفة الفقهية خاصة، لأن بها يتم امتلاك ناصية الصناعة الفقهية، وبغيرها يكون مبلغ علم الدارس الاستهلاك والحفظ لمايقرأ ويسمع وهذا الحال لايحقق للأمة نهضة ولا رقيا. وإنني مازلت مقتنعا بأن أصول الفقه إذا درس مطبقا على النصوص الشرعية ومن خلال مدارسة مسائل الفقه، يكون أجود وأنفع وبهذا المنهج تكتسب ملكة الفقه. وهذه ورقات أردت من خلالها عرض نماذج من هذا المنهج الفذ. وسنجعل هذه الحلقات لشهر رمضان، من خلال نص قرآني محوري تتجلى فيه كما في القرآن كله، التعابير الفنية المقصودة، و هو الآتي:
النص موضوع الدراسة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {البقرة/183} أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {البقرة/184} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {البقرة/185} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {البقرة/186}.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {البقرة/187}﴾
كلمة:"كتب":
من المعلوم أن الواجب كقسم من أقسام الأحكام التكليفية الخمسة يستفاد بأساليب وصيغ لغوية متعددة، ومنها لفظ"كتب"، لذلك سنعرض ما تداوله بعض القدماء من اللغويين و المفسرين و الأصوليين في كتبهم عن هذه المادة اللغوية في دلالتها التشريعية، مع تعليقات خفيفة تفي بالغرض:
قال الشَّافِعِي في باب البيان الأول في قول الله تبارك وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) الآية.
" فافترض - الله - عليهم الصوم..." . فذكر الشافعي أن المراد من الآية وجوب صيام شهر رمضان، فإن الواجب يستفاد من مادة الفعل (كتب).
وقال ابن العربي:"قال علماؤنا: معنى كتب فرض وأُلزم" . وأصل المادة لغويا ماقاله ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:"ومن الباب الكتاب، وهو الفرض" .
وهذا ماأكده الطبري بقوله:"يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقُوا بِهِمَا وَأَقَرُّوا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] فُرِضَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، وَالصِّيَامُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صُمْتُ عَنْ كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي كَفَفْتُ عَنْهُ، أَصُومُ عَنْهُ صَوْمًا وَصِيَامًا، وَمَعْنَى الصِّيَامِ: الْكَفُّ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْكَفِّ عَنْهُ؛ وَمَنْ ذَلِكَ قِيلَ: صَامَتِ الْخَيْلُ إِذَا كَفَّتْ عَنِ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] يَعْنِي صِمْتًا عَنِ الْكَلَامِ" . فذكر الطبري إفادة كلمة "كتب" الفرضية، وزاد على ذلك بذكر دلالات الصوم في اللغة وفي سياق آخر من القرآن، وقد كان في الشرائع السابقة، وقد عرفت العرب قديما الصيام من صوم اليهود ليوم عاشوراء، ولما هاجر النبي من مكة إلى المدينة، صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، ثم نسخ وجوب صيام عاشوراء بنزول آيات الصيام المذكورة أعلاه.
وكلمة "كتب"هنا تفيد-بصيغتها الخبرية- القصد الأصلي من تشريع الصيام. وهو مجرد الأمر وطلب الفعل من جهة الشارع، والامتثال من جهة المتلقي للخطاب، إذ الواجب ماطلب الشارع من المكلف فعله طلبا جازما بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه. فإذا نوى المكلف الصيام، فقد حقق المقصد الأصلي من الصيام وهو الامتثال لأمر الله طمعا في رضاه.وهنا فائدة أخرى وهي أن الخطاب متوجه للمؤمنين الذين سلموا بصدقية الإسلام والوحي، كما قال الشاطبي-في هذا النوع من الأدلة التي يكون فيها الخطاب مباشرا بغير برهنةولااستدلال-أنه" مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي النِّحْلَةِ، وَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ التكليفية؛ كدلالة الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَدَلَالَةِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [الْبَقَرَةِ: 178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [الْبَقَرَةِ: 183] ، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَةِ: 187] ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَأَمْثَالَهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ الْبَرَاهِينِ، وَلَا أُتِيَ بِهَا فِي مَحَلِّ اسْتِدْلَالٍ، بَلْ جِيءَ بِهَا قَضَايَا يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا مُسَلَّمَةً مُتَلَقَّاةً بِالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا بُرْهَانُهَا فِي الْحَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِرِهَانُ الْمُعْجِزَةِ؛ ثَبَتَ الصِّدْقُ وَإِذَا ثَبَتَ الصِّدْقُ؛ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ" .
وختام القول في مدلول كلمة "كتب":أن حكم الصيام، حكم عظيم من الأحكام الشرعية، والعبادات الدينية التي شرعها الشارع لرياضة النفس على التقوى وتزكيتها وتحليتها بالفضائل.
ويبقى سؤال الحلقة الثانية المقبلة؛ هل الأيام المعدودات هي شهر رمضان؟ كيف ذلك؟
0 comments:
Post a Comment